الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: المسألة الأولى: سبب نزول الآية: روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، «وقالت: فرق بيني وبينه فإني أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا، وأشدهم سوادًا، وإني أكره الكفر بعد الإسلام، فقال ثابتٍ: يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: نعم وأزيده فقال صلى الله عليه وسلم: لا حديقته فقط، ثم قال لثابت: خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام». وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية. المسألة الثانية: الاستثناء في قوله تعالى: {إلا أن يخافا}: اختفلوا في أن قوله تعالى: {إلا أن يخافا} هو استثناء متصل أو منقطع، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أن أكثر المجتهدين قالوا: يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب، وقال الأزهري والنخعي وداود: لا يباح الخلع إلا عند الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئًا، ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال: {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف، وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَئ مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئًا بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، وأما كلمة {إِلا} فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خطئًا} [النساء: 92] أي لكن إن كان خطأ {فتحريرُ رَقبةٍ مؤمنةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. المسألة الثالثة: الخوف المذكور في الآية: يمكن حمله على الخوف المعروف، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن، وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة، وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف، وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره: قد خرج غلامك بغير إذنك، فتقول: قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته، وأنشد الفراء: ثم الذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 230]. اهـ. .قال الماوردي: أحدها: أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق، وهو قول ابن عباس. والثاني: أن لا تطيع له أمرًا، ولا تبرّ له قَسَمًا، وهو قول الحسن، والشعبي. والثالث: هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة، وهو قول عطاء. والرابع: أن يكره كل واحد منهما صاحبه، فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه، وهو قول طاووس، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، روى ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ». يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره. اهـ. .قال الجصاص: .قال الفخر: أما القسم الأول: وهو أن يكون هذا الخوف حاصلًا من قبل المرأة، وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج، فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت، لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لها الخلع ولثابت الأخذ. فإن قيل: فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معًا، فكيف قلتم: إنه يكفي حصول الخوف منها فقط. قلنا: سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج، لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج، وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها، وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلًا لهما جميعًا، فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج، ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه، أو لمرض منفر منه، وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج، ويكون الزوج خائفًا من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها. القسم الثاني: أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط، بأن يضربها ويؤذيها، حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية، وبدليل سائر الآيات، كقوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ} إلى قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 19، 20] وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال. القسم الثالث: أن لا يكون هذا الخوف حاصلًا من قبل الزوج، ولا من قبل الزوجة، وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين: أن هذا الخلع جائز، والمال المأخوذ حلال، وقال قوم إنه حرام. القسم الرابع: أن يكون الخوف حاصلًا من قبلهما معًا، فهذا المال حرام أيضًا، لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلًا من قبل الزوج، وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] الآية، ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال، فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة، واعلم أن هذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى، فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء. اهـ. .قال ابن العربي: وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَنْعَ حَالَةَ الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَذَلِكَ لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَشْرَهُ النُّفُوسَ فِيهَا إلَى أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ مَا نَحَلَهُ الزَّوْجَةَ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ؛ إذْ يَخْطُرُ لَهُ أَنَّك إنَّمَا كُنْت أُعْطِيت عَلَى النِّكَاحِ، وَقَدْ فَارَقْت فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي أَخْذِك؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَجَوَّزَهُ عِنْدَ مُسَامَحَةِ الْمَرْأَةِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} وَحَلَّلَ أَخْذَ النِّصْفِ بِوُقُوعِ الْفِرَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَطِيبُهُ عِنْدَ عَفْوِهَا أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْعُقْدَةِ عَنْ جَمِيعِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ. .قال الفخر: المسألة السابعة: الخلع تطليقة بائنة: وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري، وهو قول أبي حنيفة وسفيان، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنهم، وقال ابن عباس وطاوس وعكرمة رضي الله عنهم: إنه فسخ للعقد، وهو القول الثاني للشافعي، وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور. حجة من قال إنه طلاق أن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق، فإذا بطل كونه فسخًا ثبت أنه طلاق وإنما قلنا: إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخًا لما صح بالزيادة على المهر المسمى: كالإقالة في البيع، وأيضًا لو كان الخلع فسخًا فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر، كالإقالة، فإن الثمن يجب رده، وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ، وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق. حجة من قال إنه ليس بطلاق وجوه: الحجة الأولى: أنه تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} ثم ذكر الطلاق فقال: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فلو كان الخلع طلاقًا لكان الطلاق أربعًا، وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس. الحجة الثانية: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته، مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام، فلو كان الخلع طلاقًا لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستكشف الحال في ذلك، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقًا دل على أن الخلع ليس بطلاق. الحجة الثالثة: روى أبو داود في سننه عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، قال الخطابي: وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، لأن الله تعالى قال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228] فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد. اهـ.
|